هل أعلنت قيامة الرب
شيئًا عن اتحاد النفس بالجسد؟
عندما قام الرب من بين الأموات، وصار "باكورة الراقدين"، حَفِظ جراحات الصليب في جسده، أي المسامير وطعنة الحربة، وهي تلك التي عاينها توما الرسول وهتف "ربي وإلهي". لقد أقام الرب جسده بدون فساد، ولكن كعلامة على محبته الأزلية لنا أبقى على جراحات الصليب، تلك التي قبلها بإرادته وحسب محبته للبشر. هذه الجروح، بقيت لكي تعلن لنا ثلاثة أشياءٍ هامة:
أولا: لقد تجلَّى الرب قبل موته المحيي على جبل تابور أمام تلاميذه، وبذلك
كشف لنا عن مجده الإلهي الذي احتجب في جسده، وسطع نوه الإلهي معلنًا ﺑﻬاء الحياة
الإلهية التي سوف تعطى لنا في القيامة، والتي أخذناها هنا في الزمان الحاضر، ولكن
تبقى مستترًة إلى أن يأتي يوم تجديد الخليقة. هذا البهاء الذي ظهر علانيًة، ظهر في
جسده المحيي معلنًا لنا ما سوف يحدث لأجسادنا عندما نقوم فيه في اليوم الأخير،
لأن مجد الرب يسوع المسيح ظهر علانيًة في جسده.
ثانيًا: حَفِظ الرب جروح الصليب لكي يؤكد محبته، ولكن أيضًا لكي يؤكد
لنا أن المحبة – بشكل خاص – تحول الجسد إلى ذات الرؤية التي تراها النفس
ويستوعبها القلب وتثبت فيه. إن ما يحدث لنا من تحول داخلي، ينعكس، بل يشع
بشكل منظور؛ لأن محبته لنا كامنة في جوهره الإلهي، وهي ذات المحبة التي ظلت تشفي
المرضى، وتطرد الشياطين، وتحرر المأسورين. وعندما قِبل الصليب بإرادته وبسبب محبته
للآب ولنا، ترك الجروح مُعلنًا إن ما في الداخل في القلب، يظهر بشكل علني ومنظور
في كل أعضاء الجسد؛ لأنه بإرادته قِبل المسامير في يديه، والإرادة واليدين هما واحد .
ولأنه ثابتٌ في محبته، قِبل المسامير في قدميه؛ لأن الإنسان يقف على قدميه، والقدمين
والرجلين هما الشكل المنظور للبقاء والحركة، فقد قيَّد حركته بالمحبة، أو بمعنى أدق،
ثبَّت حركته علنًا وبشكل منظور بمسامير القدمين. وهكذا أيضًا توَّج فكره بتاج
الشوك؛ لأنه قِبل أن يغسل آثامنا وجراحنا الروحية، مؤكدًا – بتاج الشوك – أنه توَّج
الطبيب والشافي. وهكذا أيضًا جُرحَ في جنبه سريًا حيث الضلع الذي أخِذت منه
حواء رمز الكنيسة والتي وُلِدَت منه بالماء والدم.
نحن نولد روحيًا من جراح الرب ولادًة تؤكد لنا أن المغفرَة ليست إعلانًا بالكلمة فقط، بل بحياةٍ تُعطى لنا تغلب الحياة القديمة البالية. هكذا عندما نتأمل جراح الرب، نعاين أن ما يحدث للنفس، وكذلك التحول الداخلي في القلب، ذلك التحول الخفي، يؤكد لنا أننا ننال علامات القيامة ونحن هنا في "جسد الموت "، أي الجسد الذي يفنى حسب أصله الترابي الذي أخِذ منه؛ لأن فناء الجسد الطبيعي هو مقدمة
قيامته؛ لأن شكله الطبيعي يفنى بالموت لكي يقوم حسب شكل المسيح . وتركيب
الأعضاء البالي ينحل؛ لأنه يُزرَعُ في هوانٍ ويقام في مجدٍ حسب كلمات الرسول
وهو ما نحسه روحيًا حسب روح يسوع أي الروح القدس الذي أقامه من الأموات.
) ١كور١٥ (
لذلك ذكِّر الإخوة بأن انحلال الجسد وعودته إلى التراب هو بداية القيامة ؛
لأنه يعود إلى التراب ليس بلعنة الموت، بل بقوة القيامة، لأن لعنة الموت معناها عدم
القيامة، أمَّا نعمة الرب، نعمة القيامة فهي حياة أبدية في يسوع المسيح ابن إلهنا الآب
السماوي.
ثالثًا: وبسبب تجسُّد الرب وموته وقيامته، ثبَّت لنا وأعلن لنا سر اتحاد النفس
بالجسد؛ لأنه جاء لكي يخلصنا ويحملنا مثل خرافٍ صغار في أحضانه، معلنًا لنا أن
النفس هي الأصل، وهي قاعدة (جوهر) الوجود الإنساني، وإن الجسد هو صورﺗﻬا
الخارجية المنظورة، ذلك لأنه جدد النفس وردها إلى صورته السماوية التي حُددت في
بشارة الإنجيل. فقد أعلن أن التجديد هو روحيٌ، وأنه يكمل في يوم القيامة. وأعلن لنا
مراحل التجديد مؤكدًا لنا أولوية النفس بالميلاد الجديد في مياة المعمودية التي يغتسل
فيها الجسد أيضًا من لعنة الموت منتظرًا قيامته ﻟﻤﺠد ابن الله. وأعلن لنا أيضا سُكنى
الروح القدس في النفس والجسد معطيًا للنفس الدور الأول مقدِّسًا الجسد.
الكل خُتِمَ بالروح القدس، أي بشكل الرب يسوع اﻟﻤﺠيد، يبقى الكل مثل بذرةٍ تنتظر
يوم مجد الرب يسوع الذي سوف يغيِّر شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد
مجده؛ لأنه استطاع أن يُخضِع له كل الأشياء (فليبي ٣ (
وماذا يمكن أن نقول عن السر الفائق اﻟﻤﺠيد، سر بذل محبته، فقد سبق وكتبنا
الكثير، لكن العبرة هي في تذوُّق صلاح الرب وإحساناته لنا، وإعلان شفاء وتجديد
كل كياننا بالاتحاد به في سر مجد محبته، سر جسده ودمه.
هل انحلال وحدة الكيان الإنساني، وعودة الجسد إلى التراب هو
من بقايا الخطية؟
هزم الرب الشيطان بطرده وأسره في الجحيم. وهزم الموت على
الصليب. أعلن الغفران وهو معلقٌ على خشبة الصليب، وفتح الفردوس للص اليمين،
وأقام الموتى، وفتَّح أعين العميان، وشفى المرضى. فهل بعد كل هذا يمكن لنا أنه توجد
بقايا للخطية، لقد محا كل شيء، وجدد كل شيء، وردنا بميلادٍ سماوي إلى الحياة
السماوية. فكيف يجوز لنا أن نتكلم عن بقايا الخطية؟ لقد دفعت الخطية أجرﺗﻬا لنا،
وهي الموت، وجاء الرب وهزم الموت، فلماذا لا ننال التجديد كاملا؟ ولماذا تنحل
وحدة الكيان الإنساني ويعود الجسد إلى تراب الأرض؟
لقد أجاب الرسول على هذا في ﻧﻬاية الفصل الثاني من رسالته إلى رومية ( ٨ (، حيث أعلن بوضوح أن التجديد الشامل لكل الخليقة سوف يتم في اليوم الأخير، وإننا نحن الذين نلنا الفداء في إنساننا الداخلي "نئن متوقعين فداء أجسادنا"
لأننا لن نتجدد جسديًا إلاَّ مع باقي الخليقة؛ لأن الجسد الذي يحيا بالأكل من ثمار الأرض، وعلى الرغم من أنه يأكل طعام الحياة الأبدية ، جسد الرب ودمه، إلاَّ أنه يأخذ "العربون"، أي القيامة حسب مواعيد الله. هنا نحن نحيا حياًة في موت الجسد؛ لأن النظام الكوني لم يتجدد بعد، ولا يزال يئن على رجاء استعلان
"حرية مجد أولاد الله"، لذلك لا يجب أن نفشل في انتظار قيامة الأموات، بل بصبر في
العمل الصالح ننتظر أن يأتي الرب والمخلص ويجدد النظام الكوني.
كيف رفع الرب لعنة الموت؟ وكيف لا نزال نموت ونُدفن؟
ما معنى كلمة "لعنة"؟ حسب كلمات الروح القدس في الأسفار الإلهية، اللعنة هي ما يرفض الله أن يعطي له البقاء والكثرة، أي الزيادة حسب كلمات
وقيامة الرب بجسده الذي أخذه من العذراء القديسة مريم، : المزمور ( ١٠٩
والذي مُجِّدَ بقوة القيامة تؤكد لنا أن اللعنة قد رُفِعَت، بل أبيدت تمامًا؛ لأن الرب
يسوع وعدنا بالقيامة، فكيف نقوم إذا كانت لعنة الموت باقية.
لقد حوَّل الربُ الموتَ، وهو ثمرة الخطية، وجدده عندما غيَّره من قوة فناء وانحلال إلى قوةٍ تخدم تجديد الخليقة؛ لأن انحلال القديم، هو ميلادٌ للجديد. ولذلك نحن لا نموت كما يموت غير المؤمنين، بل نموت في الرب ونرقد في الرب، أي أن موتنا يحسب لنا خلاصًا، أمَّا موت الأشرار فهو دينونة.
والمسيحي يموت مرًة واحدة عندما يُصلب ويُدفن مع المسيح، ولا حظ أن
الرسول لم يقل إن المسيح يُدفن معنا، بل نحن "دُفنا فيه ومعه وبه".
فيه؛ لأنه أخذ طبيعتنا.
ومعه؛ لأنه البكر وباكورة الراقدين، ونحن سوف نتبعه.
وبه؛ لأنه أباد قوة القبر.
ثبِّت الإخوة لكي لا يقعوا ضحية حزن العالم، ولكي لا يبكوا على الراقدين
مثل غير المؤمنين، أو يقيموا مناحة على الموتى من أجل إعلان يأسهم من رحمة الرب.
ومن يبكِ متوجعًا، ليس كمن يبكِ يأسًا وخوفًا؛ لأننا نفتقد الإخوة والأخوات الأحباء
الذين رقدوا. ونحن نبكي أحيانًا، ولكننا نتعزى بالإيمان بأﻧﻬم مع الرب.
وهكذا نحن نموت ونُدفن مع الرب، ولكن تبقى حياته فينا؛ لأنه على الصليب
كان الميت الحي، وفي القبر كان راقدًا لكي يحطِّم الهاوية التي نزلت إليها نفسه
الإنسانية متحدًة بلاهوته، نزلت بقوة اتحادها باللاهوت، أي دخل الرب الجحيم بقوته
معلنا ﻧﻬاية قوة الجحيم. كان الرب في الهاوية حسب كلمات المزمور ( ١٣٩
ولكنه الآن يدخل الهاوية بنفسه الإنسانية، دخلها لكي يبيد قوة الجحيم، ولكي يُخرج
الأسرى من الظلمات، ويفتح لهم باب الفردوس.
هناك فرقٌ بين أن يكون الرب في الهاوية بقوة ألوهيته، وأن يكون في الهاوية بنفسه الإنسانية؛ لأن قوة الابن كخالق ليست هي موضوع السؤال ، ولكن وجود الرب بنفسه الإنسانية المتحدة بُأقنومه الإلهي هي التي تحرك فينا الحمد والتمجيد؛
لأنه لم يترك مكانًا إلاَّ وأعلن فيه الخلاص: في السماء من فوق، وعلى الأرض من
تحت، وفي الهاوية أيضًا، لكنه نزل لكي يعطي المؤمنين قوة الاقتحام الذي أكمله،
ولكي يغلق "فم الهاوية" إلى الأبد. أمَّا قوة الاقتحام، فهي في نفس كل من نال سر
المعمودية؛ لأننا "دُفنا معه"، ولأنه "سبى الجحيم"، وبذلك صار لنفوسنا ذات القوة
وأن تحول كل : القادرة على أن تسبي "كل فكر إلى طاعة المسيح" ( ٢كور ١٠
قوة أخرى إلى "الأسر" الذي أعطاه لنا الرب بموته المحيي.
لماذا يتأخَّر التجديد إلى اليوم الأخير؟
حسبما أشرنا من قبل، تظل الحياة تعمل في الموت إلى يوم القيامة العامة، وهو اليوم الذي سوف يُعلن فيه كل ما كان "خفيًا" ومستترًا عن عيوننا، وهو كائنٌ معنا ولكننا لا نراه، وإنما نحسه بالإيمان، أي برؤيةٍ داخليةٍ إلى اليوم الذي عيَّنه الرب لكي يعتق فيه الكل مجددًا الكل وهو آخر "مراحل" التدبير.